قرى حمصية في الشمال
تلبيسة- تيرملعة-حتى الرستن
10/16/20251 min read


في أقصى الشمال من حمص، حيث الهواء يهبّ محمّلًا برائحة التراب الرطب بعد المطر، تقف بيوت تلبيسة الطينية كأنها تهمس للريح: “هنا الإنسان عاش كما ينبغي أن يعيش.”
قبابٌ صغيرة، متقاربة، كأنها تتساند على كتف الزمن، تشبه الأرواح حين تجتمع على الطمأنينة.
البيوت الطينية هناك ليست حجارةً جامدة ولا طينًا يابسًا… بل كائنات حيّة تنبض بحرارة النهار وبرودة الليل. سقوفها كالقواقع تحفظ بداخلها سكونًا يذكّرك بأن الهدوء ليس غياب الصوت، بل امتلاء المعنى. تدخلها فتشعر أنك لم تَعُد في بيتٍ فحسب، بل في حالةٍ من الصفاء. جدرانها تتنفس الطمأنينة، وتُشعرك أنك داخل معبدٍ صغير، أو خلوةٍ منسية في ذروة الجبل، أو مسجدٍ بلا مآذن.
هناك، لا شيء يصرخ. لا الألوان، ولا الأشكال، ولا حتى الضوء. كلّ شيءٍ همس. كلّ شيءٍ رضى.
الطين يحتضن الإنسان لا ليحميه من البرد فقط، بل ليذكّره أنه جزءٌ من هذه الأرض، وأن الاستقرار ليس في الحجر الصلب، بل في الانتماء.
ما أجمل تلبيسة حين تشرق عليها الشمس، تلمع قبابها كأنها رؤوسُ أُناسٍ في صلاة طويلة. تتقارب البيوت كما تتقارب القلوب في مجلس محبة، فتشعر أن الجيرة هنا ليست قانونًا اجتماعيًا، بل فطرة من فطر الله عليها هذا التراب.
الدفء فيها لا يأتي من النار، بل من حميمية المكان، من تاريخه، من رائحة الطفولة، من حكمة الأجداد الذين عرفوا كيف يصنعون الجمال من البساطة، والعزلة من الألفة.
في الشمال الحمصي، حين تغيب الشمس خلف القباب، يصبح الصمت قصيدة، وتغدو البيوت مثل قواقع تحمل في داخلها صدى الإنسان الأول… ذاك الذي كان يعرف كيف يعيش بسلام مع نفسه، ومع الطين، ومع السماء.
